لماذا رفضت ألمانيا ووافقت بريطانيا؟.. تحليل الصندوق الأسود لطائرة “الحداد” يثير الجدل في ليبيا

لا يزال الغموض يلف حادثة مقتل رئيس أركان حكومة الوحدة الوطنية، الفريق أول ركن محمد الحداد، بعد تحطم الطائرة التي كانت تقله في الأجواء التركية، في واقعة تحولت من حادث جوي إلى ملف سياسي وأمني مفتوح على تساؤلات عديدة.
الحادثة بدأت بإعلان السلطات التركية اختفاء الطائرة بعد أقل من أربعين دقيقة على إقلاعها، مرجعة ذلك إلى عطل كهربائي مفاجئ. وفي توقيت متقارب، سارع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة إلى إعلان مقتل الحداد ورفاقه، وتحطم الطائرة من طراز “فالكون 50”، مع الإعلان عن تشكيل لجنة أمنية لتولي التحقيقات.
لكن تطورات ما بعد الحادثة كانت أكثر إثارة للجدل من الواقعة نفسها. فمع عثور الدرك التركي على الصندوق الأسود للطائرة، أعلنت أنقرة نيتها تحليل البيانات في دولة محايدة، في خطوة فُسّرت على أنها محاولة لإضفاء قدر من الشفافية والحياد على التحقيق، نظرًا لحساسية الموقع السياسي والعسكري للضحية.
في هذا السياق، طُرحت ألمانيا كخيار أولي لتحليل الصندوق الأسود، قبل أن تعتذر برلين رسميًا، مبررة موقفها بعدم توفر الإمكانيات الفنية اللازمة للتعامل مع هذا الطراز من الطائرات. ورغم أن التبرير يبدو تقنيًا في ظاهره، إلا أنه فتح الباب واسعًا أمام التكهنات، خاصة أن ألمانيا تُعد من الدول المتقدمة في مجال التحقيقات الجوية، وتشارك بانتظام في لجان دولية مماثلة.
رفض ألمانيا، بغض النظر عن مبرراته، أعاد طرح سؤال الحياد السياسي، وعمّا إذا كانت برلين فضّلت النأي بنفسها عن ملف شديد الحساسية، قد يحمل أبعادًا تتجاوز الجانب الفني، ويمس توازنات إقليمية ودولية معقدة تتقاطع فيها ليبيا وتركيا ودول أوروبية فاعلة.
في المقابل، جاء الاتفاق الليبي–التركي على إرسال الصندوق الأسود إلى بريطانيا، التي أبدت موافقتها على تحليله، ليضيف طبقة جديدة من الجدل. فبريطانيا، وإن كانت تمتلك خبرة تقنية معترف بها في مجال التحقيق في حوادث الطيران، إلا أنها ليست بعيدة سياسيًا عن الملف الليبي، ولها تاريخ طويل من التداخل الدبلوماسي والأمني في الشأن الليبي.
هذا الاختيار أثار تساؤلات حول معايير “الحياد” التي تم اعتمادها، وحول ما إذا كان القرار فنيًا بحتًا أم محكومًا باعتبارات سياسية وتفاهمات مسبقة، خاصة في ظل غياب توضيحات رسمية ليبية مفصلة للرأي العام بشأن آلية اختيار الجهة التي ستتولى التحليل.
وتزداد علامات الاستفهام مع التطورات المتزامنة داخل حكومة الوحدة، وعلى رأسها سرعة تعيين صلاح النمروش رئيسًا جديدًا للأركان، وهو اسم تحيط به علاقات قوية ومتشعبة داخل الدوائر العسكرية والسياسية المرتبطة بالحكومة، ما فتح باب الاتهامات بوجود استعجال غير مبرر، أو محاولة لاحتواء تداعيات الحادثة سياسيًا قبل استجلاء حقيقتها.
كما لم يغب عن المشهد انتقاد واسع لما وُصف بضعف رد الفعل الرسمي، سواء على مستوى الحداد السياسي، أو على مستوى الخطاب العام الصادر عن الحكومة، وهو ما غذّى شعورًا بأن التعامل مع الحادثة جاء وكأن من فقد حياته ليس رئيس أركان فعليًا، بل مجرد مسؤول عابر، خاصة بعد تداول صور ومشاهد وُصفت بالمستفزة لرئيس الحكومة خلال لقاءات رسمية لاحقة.
في المحصلة، يبقى الصندوق الأسود هو مفتاح الحقيقة الوحيد في هذه القضية، لكن مسار التعامل معه، منذ العثور عليه وحتى اختيار الجهة التي ستفك شفرته، يعكس حجم التعقيد السياسي المحيط بالحادثة. وبين اعتذار ألماني وموافقة بريطانية، وبين صمت رسمي وتسريبات متضاربة، يظل السؤال معلقًا: هل سيقود التحقيق إلى كشف ملابسات الحادث كاملة، أم سيتحول الصندوق الأسود نفسه إلى جزء من لغز أكبر لم يُكتب له أن يُفتح بالكامل؟



